ماذا وراء برامج تقليص الإنفاق وإلغاء الدعم؟

برامج تقليص أو إلغاء الدعم الذي تقدمه الدولة ليس الهدف منه خفض عجز الميزانية، وإنما وراءه إرادة إفقار غير مصرّح بها، لكن الإجراءات تؤدي إليها. فلو أرادوا ترشيد النفقات لبدأوا بمنافذ عديدة لا تخفى تتسرب منها الأموال بلا طائل، فإذا احتيج بعد ذلك لمطابة الناس بتحمل بعض التقشف رضخوا مقتنعين بجدوى التضحية. لكن خفض الإنفاق على التعليم والصحة، وتحرير سوق الوقود، ورفع الدعم عن بعض أساسيات الغذاء، ورفع القيمة المضافة... إنما هو جزء من حزمة متكاملة يسمونها الإصلاح الهيكلي، لا نراه في الغالب على حقيقته بسبب تفرقه في الأخبار، ولأن تنفيذه يجري بالتدريج، فلا تكاد تنطفئ الأصوات المتذمرة من قرار فيه تضييق للمعيشة حتى يعلنوا عن التالي. ما يراد من هذا بعد مدة من توالي هذه "الإصلاحات" الهيكلية هو الوصول إلى نموذج للدولة لا تحتفظ فيه تقريبا بغير وظيفة الأمن وجباية الضرائب بعد رفع يدها عن الخدمات -كل الخدمات- وتفويتها للقطاع الخاص: ففي زمن ليس ببعيد، المدارس والمستشفيات والبريد والنقل والطاقة... في يد شركات تحتكر قطاعا كاملا أو تنافس غيرها فيه، لكن كل الخدمات بمقابل. وشيء من هذا حاصل، وعليه فقِس. وفي بعض الدول الرائدة في الخوصصة تمهيد لجعل السجون والشرطة بإدراة مقاولات خاصة. القصد: أن إجراءات التقشف لا تطال امتيازات من يُقرّون هذه القوانين مثلا (رغم أن هناك مجالا لإعمال مقص الاقتطاعات)، وإنما تستهدف إعادة تشكيل نموذج الدولة، لتصير دولة ضئيلة، كما سبق. وإلا فكيف نفسر أن هذا المسار سلكته دول في أنحاء مختلفة، ذات أنظمة مختلفة، لا تختلف سوى في كيفيات التطبيق والجرعات التي لا تسبب فورة احتجاج تخرج عن السيطرة وسرعة التنفيذ: اليونان وإسبانيا والبرتغال والمغرب ومصر والسعودية والكويت... (بغير استقصاء مني وعلى تجنبي لمتابعة الأخبار) تسير على نفس الخطى في إقرار النموذج المذكور، ومن الطريف أن ترى الناس في هذه البلدان تحتج (احتجاج سلبي في الغالب) على رفع الدعم وتقليص النفقات ولا يُلتفَت إلى أن نفس الشيء يعاني منه الجيران.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Blockbuster Movies: Entertainment and Indoctrination