التصالح مع النفس

للاستماع: هنـا.
يُقدَّر للبعض أن يعيش في حالة قلق مستمرة، توتر، واضطراب ملازم، مع شعور بالتفاهة -وأحياناً- العار، تترافق هذه الأمور مع احتقار للذات، أو جلد مستمر لها. تتولد هذه الاعتقادات في النفس بسبب خطأ، أو خطيئة قديمة أو حديثة، وبسبب فشل متكرر حال دون المأمول، وبسبب رغبة وآمال طموحة مع قدرات محدودة، أو مع إرادة كسولة، وعجز غير مبرر، وبتأثير من العيش في الماضي، مع أحداثه المأساوية، وتجاربه القاسية. بمثل هذه المسببات وغيرها تتكوّن تلك الانعكاسات النفسية البائسة.
يقال عادة لهذا الانسان: تصالح مع نفسك.
ماذا يعني التصالح مع الذات؟ يعني الانسجام، والسلام الداخلي. التفهم، والقناعة، والتجاوز. يعني ترسيخ معاهدة تسامح وسلام أبدي مع النفس، بعد معارك طويلة وخاسرة، لأنها مع العدو الخطأ.
مضامين التصالح تعتمد على إعادة تقويم شاملة للذات وبعيوبها وإخفاقاتها، والقبول المبدئي بها، لأنه ما من خيار سوى ذلك. فالإنكار والاحتقار والتعالي على الواقع الحقيقي لا يغيّر النتائج، وإنما يقوّض الطمأنينة، ويكرس التناقض مع النفس، ويسمح بتوالد العُقد والأزمات والكراهية المَرَضية، والتي تقعدك عن مواصلة السير. أحياناً لابد من خفض درجة الطموح الذي لا يتناسب مع القدرات والمواهب، ولا تنهض به إرادة مشتعلة.
وإعادة تقويم الذات وإخفاقاتها تستوجب إقامة النظر على مقتضى الشرع، ومرتكزات الإيمان، وذلك بتحقيق الموازنة الصالحة بين الندم الدافع للتوبة والعمل، والندم والقنوط المُقعِد، والموازنة بين الانغراس في الماضي وإقامة الحاضر، وإعماره بالحسنات والفضائل الماحية. إن الواقع الشخصي الثري والمملوء بالإنجاز والعمل يقصي بالضرورة الماضي من الذاكرة ومن الوعي. والموازنة -أيضاً- بين درجة الخطيئة أو الخطأ عند الله وعند الناس، والناس يقع لهم -في بعض الأحيان- أن يعظمون ما حقّره الله، ويحقّرون ما عظمه الله. كما أن الناس قد لا يغفرون، ويعيرون، أما الله فهو الغفور الودود.
كما يتوجب للمصالحة التمسك بمقاومة الإدمان والحذر من الانهزام التدريجي المرسّخ للانسلاخ من أصول التدين والأخلاق والفضائل.
نعم، التصالح أحياناً يكون خطيئة، أو كالخطيئة، إذا كان يعني القضاء على وخز الضمير، وإلحاح الفطرة، وخنق الحنين إلى السماء. إذا كان يعني القبول بالدون، والرضا بالتفاهات، والسفاسف، وبمنادمة الأرذال، وإفناء الزمان في القبائح.
إن جوهر التصالح مع النفس يعني التقدير العادل لأحداث الماضي ولإخفاق الحاضر أو تعاسات الظروف، والنظر لجراحات الزمن بوصفها الثقوب التي ينفذ من خلالها النور إلى الروح كما قيل. نور معاناة التجربة، ونور الانتصار على المشاق.
ومن غير تصالح مع الذات سيقف القارب، لأن المجاديف المتعاكسة لا تفيد. ولا يبقى سوى الاستسلام للعواصف القادمة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسباب: لا إهمال ولا تأليه