احتراق


اتخذ قبل الظهيرة مقعدَه المعتاد من الحي، أخرج من جيبه علبة أعواد ثِقاب وورقةً نقدية بنفسجية، أضرم فيها النار وطفِق يتأمّلها حتى تلاشت، فأتبعها بأخرى خضراءَ وصنع بها مثل ذلك، ثم ببُنية، ثم بزرقاء، الأعلى قيمة! ولا تعبيرَ في ملامحه يشي بالأسى، وإنما بالانتشاء، وكأن ثروتَه تتنامى بالاحتراق، بدل أن تتبدّد، وكأن ما في جيبه، أو جيوبه، لن ينفد!

(كيف حصل على الوقيد وقد انقرض؟ أتعجبان، أيها القارئ والقارئة، من ذلك فيمن أوراق المصارف عنده، كما رأيتما، أبخس من حطب التدفئة؟ ثم إن الرجل ينتمي إلى جيله، وما زال يستعمل الأدوات القديمة.)

ما لبث المارة أن تنبّهوا له؛ بعضهم راجع من العمل وبعضهم من السوق، وما كان هو يهتم بالتواري، بل طلب أن تبدوَ فِعلتُه للعيان.

كان الجيران يعرفونه، وهل يخفى حكيم؟ لذلك لم يخطر ببالهم رميه بالخَبَل، على شدة انصعاقهم مما يرون، فلعل في الأمر ما يخفى على أفهامهم.

اقترب منه أوائل من أبصروه مستفسرين: "ما الخَطبُ يا حكيم؟"

ضَنَّ بالجواب، أو أخّره ريثما يكثر الحشد من حوله، وبقي ساهماً في الدخان، وقد تناثر الرماد عند قدميه.

تحلّق الفضول وتفاقمت الغرابة، والأعين المتحسّرة مسلطة على الأوراق النقدية التي يلتهمها اللهب، ولا من يجرؤ على ثنيه. كم أهلك من الأموال في جلسته تلك؟ ربما أكثر مما يجنيه أرباب بيوت الحي بأسره!

حدّثوه متلطفين، يحدوهم الأمل في استبقاء ما عنده واستدراجه أيضا للإفصاح عن كنزه المدّخر.

قال أحدهم: "يا حكيم، إنما نريد أن نطمئن عليك، فما عهدنا منك العبث.

وقالت أخرى: "لطالما تلقّفنا أقوالك، أيها الوقور، وتناقلناها، نستضيء بها..."

"بل تزيّنون بها الصفحات"، قاطعها، ولم يقطع المحرقة.

ساد صمت، إلى أن ارتأى آخر أن يسلك معه نهجا مغايرا: "إن لم تكُفّ عن هذا يا حكيم، نادينا الشرطة، فكفَّتك واستنطقَتك، وحينها نعلم خبرك. فلا تضطرَّنا إلى بهدلتك!"

وقال آخر: "لقد نذرتَ نفسك للنصيحة، وما قبلت العطايا من أحد لاستغنائك عما في أيدينا، لكن لم نتخيل أنك تلعب بالفلوس!"

الحكيم لا يجدي معه الاستجداء ولا التهديد ولا التهكّم.

أطرق مليّاً، ثم أجال نظرَه فيهم، وخاطبهم بصوته الرصين:

"ماذا تسمُّون من يشعل النار في الأوراق النقدية مثلي؟"

سكتوا.

"سأوفّر عليكم الحرج. تسمّونه مجنوناً، أليس كذلك؟"

ردّوا: "بلى"، وقد أدركوا أنه يروم تعليمَهم بالأمثولة -الباهظة- التي ضربها لهم.

أردف: "وإنه لجنون!" -ابتسم- "لكن ألا ترون أنكم تحرقون ثرواتكم بأشنع مما فعلتُ؟"

فُغِرت الأفواه، غير أن الوجوه المشدوهة كانت ناطقة بـ"كيف ذلك؟"

"العبد الضعيف أفنى آلاف الدراهم للتّو، وعلى سبيل التمثيل والتشبيه؛ وأراكم تحرقون الساعات الطِّوال من أعماركم لا تغنمون شيئا فيها، تحرقونها حقيقةً لا مجازا. وأعماركم التي تهدرون لاهين، غيرَ آبهين، هي رؤوس أموالكم. فأيُّنا أوْلى بوصف الجنون؟"

استلّ من جيبه العميق ورقة نقدية أخرى زرقاء، وأشعلها بلا مبالاة.

"احرصوا على أوقاتكم، أما هذه" -مشيراً لبقايا النقود المتفحّمة- "فرمـاد."

درساً بليغا كان، رقّت له النفوس، فما انتبهوا إلا ودورية الشرطة قد حطّت بالمكان، واعتقلت حكيماً متلبّسا بإحراق الأوراق النقدية للمملكة، وإهانتها علناً، وفيها رسم من فيها.

وبيّنت التحقيقات المختصة أن الأوراق النقدية التي أحرقها حكيم كانت مزوّرة، فأُدين بتهمة تزوير العملة وحيازتها وإشعال البلبلة في الشارع العام.

ولما زاره لاحقاً بعض جيران الحيّ ليواسوه، ويقتبسوا منه، بالمناسبة، بعض أقواله، صرّح لهم:

"من تصدّر لتلقين الحكمة، ولم يتحلَّ بها، زجّ بنفسه خلف القضبان".

كانت تلك مقولتَه المأثورة الأخيرة. وما زالت كلماتُه ساريةً في الناس، بعضها صحّ عنه، وأكثرها بلا تمحيص يُنسَب له.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التصالح مع النفس

الأسباب: لا إهمال ولا تأليه