سوء تفاهم ~ إدواردو ميندوثا


سوء تفاهم
قصة طويلة
تأليف: إدواردو ميندوثا
العنوان الأصلي:
El malentendido
من كتاب:
Tres vidas de santos
سنة النشر: 2009     
ترجمها من الإسبانية:
محمد أنديش



أنطولين كابراليس بيِّخيرو، الملقب بـالهزيل، وهو المولود في كنف ما سيُصطلح عليه لاحقا بأسرة مفككة، هرب من بعض المدارس وطُرِد من أخرى، بحيث لَمَّا دخل السجن، في عامه الواحد والعشرين، كان يجيد القراءة والكتابة، لكنه يجهل ما عدا ذلك. لم يكن يزدري الثقافة؛ ببساطة لم يسبق أن وجد لها أهمية أو فائدة. إلا أن موقفَه هذا لم يمنعه، داخل الحبس، من أن ينتهز إمكانيةَ تقصيرِ مدة العقوبة بحضوره لدوراتٍ تكوينية كان أساتذةٌ مُضَحُّون يُلقُونها بانتظام على الساكنة السجنية. لقد تحمّس أنطولين كابراليس لفكرة تقديم موعد الخروج، فسجّل نفسه في عدد من الدورات، ومن ضمنها دورة عن التحليل والإبداع الأدبيين، وهي الوحيدة التي استمر فيها لأزيد من يومين.
كانت المكلَّفةُ بدروس الأدب امرأة في الرابعة والثلاثين من العمر، ضئيلةَ الحجم في بعض بدانة، ذاتَ وجه مستدير وضعيفة النظر، اسمها إِنيس فورنِيّوس. حاصلة على إجازة في الفلسفة والآداب، متزوجة من مندوب مبيعات متنقل، وقد سبق لها أن عملت كأستاذة للغتين اللاتينية واليونانية والأدبين الإسباني والعالمي في معهد خاص أغلق أبوابه بعد بضعة أعوام لأسباب اقتصادية، تاركاً إياها في الشارع. في تلك الفترة، بدأت النساء يُقبِلن بكثافة على الجامعة، وكان أغلبهن يخترن دراسة الفلسفة والأدب، حيث كانت منافسة الذكور أقل؛ وبما أن الأفق المهني لتلك الدراسة كان هو التعليم، فإن سوق الشغل قد أخذ كفايته، ولم تجد الآنسة فورنيوس إلا فرصاً من خلال تعويض أستاذات في رخصة ولادة وبعض الحصص الخصوصية زهيدة الأجرة في أشهر الصيف. ثم، وقد سئمت رقة الحال تلك، استرعى اهتمامَها إعلان عن مباراة لتدريس الأدب لسجناء، فقررت الترشح للمنصب. وعارَضَها زوجها، لكن كان لديهما ابنان صغيران، ولم يكن سهلا بلوغ نهاية الشهر بالاعتماد فقط على عمولات المبيعات التي يتلقاها هو. استقصيا عن الأمر، وأُكِّدَ لهما أن العمل في السجن لا يقترن به أي خطر. كان منصبَ موظف، بما له من امتيازات، وبمرور الوقت يمكن أن يصير مطية للولوج إلى مناصب أخرى، سواء في التعليم أو داخل المنظومة الوظيفية للسجون.
بدأت إنيس فورنيوس بالعمل بكثير من المخاوف والشكوك والتحفظات. إلا أنها ما لبثت أن انسجمت مع وسطها الجديد، وعقب مدة يسيرة اكتشفت أن العمل يروقها بأكثر مما كانت مستعدة أن تعترف للأشخاص الذين يستفسرونها حيال الأمر مندهشين. كانت إنسانةً بسيطةٍ ومتجردة من الأحكام المسبقة، صريحةَ الطبع، متزنة المزاج، غير سريعة الاستثارة ولها القليل جدا من حس الدعابة. وبهذه المزايا لم يصعب عليها أن تكسب احترام تلاميذها بل وحتى وُدَّ أحدهم، فأغلب السجناء لا يتلقى أي وُدّ من العالم الخارجي ولا يجد بالتالي لمن يمنح وده. وكثيراً ما كان يقترب منها عند نهاية الدرس سجين ليستشيرها في مسألة شخصية أو يطلب نصحها في قرار أو فكرة يتعلقان بحاضره أو مستقبله.
ومع ذلك، فإن إنيس لم تكن توهِم نفسها. إذ كانت تدرك أن جميعهم يواظبون على حضور دروسها لأن ذلك ما يفرضه نظام المؤسسة الصارم، وأنهم يفعلون ذلك لإظهار حُسنِ سلوكٍ من شأنه أن يسرّع إطلاق سراحهم مؤقتاً. ولكنها أيضا لم تكن عديمة الحرص عليهم، وكانت تعتقد أنها إذا تمكنت من بث حب القراءة في أحد أولئك الأفراد التائهين والمتخلى عنهم، بلا أنساقٍ أخلاقية ولا معاييرَ من أي نوع، ستُسهِم في تحسين وضعيّته. لم يكن باستطاعتها أن تشرح -ولا حتى لنفسها- كيف يمكن لهواية الأدب أن تُحدِث هذا التأثير النافع، لكنها كانت تعيش بهذا الأمل وتعمل بهذا الاقتناع، بينما السجناء، وهم جلوس مقابل طاولتها، لا يكلّفون أنفسهم عناء مداراة ما يعتريهم من ضجر ونعاس.
لم يحضر أنطولين كابراليس حصص الأستاذة فورنيوس برغبة في التعلم تفوق بقية زملائه؛ فقد كان يستهدف فقط ترك انطباع حسن لدى السلطات من خلال تقارير نهاية السنة التي ستقدمها تلك المرأة الطيبة.
وجرياً على عادتها في يوم الدراسة الأول، مهدت الأستاذة فورنيوس للمادة بذكر فضائل القراءة، التي حسب قولها، لا تضاهيها تسلية في كونِها مُجزيةً ومستغرِقة ولا ينضب معينها، وبالإمكان الاستمتاع بها في كل حين ومكان، وفي أي سن ودون اعتبار للحالة البدنية، بما فيها المرض والعمى (إذ توجد كتابة لمسية)، كما أنها مصدر ثري للمعارف، لأن البشرية، منذ القِدم، دوّنت بالكتابة حكمتها، وأفكارها، وعواطفها، وخيالاتها. وأعقبت هذا التقديمَ المحفِّز بسؤال لطلابها الخمسة عشر عما إذا كان أحدهم يهوى القراءة أو الكتابة. «ينبغي ألا تخجلوا من الإقرار بأنكم كتبتم ذات مرة شعراً أو قصة أو شيئا استرعى اهتمامكم. فالكتابة أمر عادي تماما مثل الكلام أو التفكير أو الغناء. ولا يهم إن كانت النتيجة جيدة أم سيئة». فقال سجين إنه كتب أبياتا من الشعر في ما مضى؛ وبالطبع لم يكن يحتفظ بأي منها، فقد كانت رديئة جداً، ولم يكن ليسمح لأحد أن يطّلع عليها مهما كلفه الأمر. وبعد تردد غير قليل، قال تلميذ آخر إنه كان قد شرع بكتابة حكايات، بيد أنه لم يتجاوز قط الصفحة الأولى. وأجمع كلهم، بمن فيهم اللذان اعترفا بمحاولاتهما الأدبية المبكرة، أنهم لا يقرؤون، أو يقرؤون فقط الصحف الرياضية ومجلات فيها صور فتيات حسناوات.
قالت الآنسة فورنيوس إن كل ذلك، في نهاية المطاف، يُعدّ قراءة، إلا أنهم في ذلك المساق سيتناولون فقط نصوصا فيها حكايات من نسج الخيال، ولو أنها كلها تحتوى على قدر كبير من الواقع. ثم وزعت على التلاميذ الخمسة عشر قصصا منسوخة. كانت مروياتٍ قصيرةً وبسيطة، وفي اعتقادها، مثيرة للاهتمام. كان ينبغي لكل واحد منهم أن يقرأ القصة التي تَسلَّمَها وأن يقدّم عنها في الحصة التالية رأيا مدعوما بالتعليل. وبهذا أنهت أول أيام التدريس.
وفي الحصة الموالية قال الجميع إنهم قرأوا القصة التي كانت من نصيب كل واحد فيهم. وكانت الآنسة فورنيوس تعلم إنهم يكذبون: فعلى أقصى تقدير، ثلاثة قرأوها كاملة، وثلاثة آخرون بدأوها، فيما استراح الباقون من وضع أعينهم على الكلمة الأولى. ومع ذلك، تظاهرت بتصديق دعواهم وسألت، مخاطِبةً العموم، إذا ما كانت القصص قد راقتهم. أجاب بعضهم بالإيجاب؛ منهم اثنان بحماسة شديدة جعلت الآنسة فورنيوس تنصرف عنهما خلال ما تلى من الدورة. ثم أجالت بصرها في المساجين واحداً واحدا، فتنحنحوا، فرُغم كونهم ذوي باعٍ في الإجرام، إلا أنهم يتصاغرون، كسائر الجنس البشري، حين يضطرون للتحدث على الملأ. أشارت الآنسة فورنيوس عشوائيا إلى أحدهم وسألته إن كان قد فهم الحكاية التي ترويها القصة. فأجاب السجين بصراحة أن كلاّ؛ فقد حاول، لكنه كلما تقدمت الحبكة تشابكت واختلطت عليه. فشكرته الآنسة فورنيوس على قوله الحقيقة وأثنت على شجاعة اعترافه بالإخفاق. فالقراءة، كما قالت لهم، هي نشاط يمكن تعلمه، تماما مثل لعب الورق. ومضت تشرح أن كل حكاية تتألف من ثلاثة أقسام: عرض، وعقدة، وحل. مثل فيلم. غير أننا في القصص المكتوبة، بخلاف السينما، لا نرى الشخصيات ولا ما تفعل، فلا بد من تخيّله؛ ليس هذا فقط، وإنما لا بد من استحضار كل شخصية وكل حدث في كل لحظة من السرد. هكذا فقط تكتسب القصة معناها المتكامل. وإذا كانوا حاليا غير قادرين على إنجاز هذه العملية، فلا داعي للقلق؛ فهي مسألة وقت ومثابرة.
"والآن، لنستمع لرأي آخر"، قالت، وكررت السؤال مشيرة عشوائيا إلى تلميذ آخر: هل أعجبته القصة؟ تردد التلميذ لحظة ثم أجاب: "كلا". لاحظت الآنسة فورنيوس أن التلميذ احمرّ. فانتظرت لثوان، ولما رأت أن رده لن يتعدى حرف النفي المقتضب ذاك، حثته على أن يشرح لماذا لم تعجبه.
"لأنها ليست كاملة"، غمغم التلميذ بخليط من المجهود والاضطراب. كان واضحا أنه لم يكن يعرف كيف يعرض أفكاره وأنه، إضافة لذلك، لم يكن يرغب في إغضاب أستاذته. لكن الآنسة فورنيوس ما كانت لتتركه وشأنه. "ماذا تعني بقولك إنها غير كاملة؟ فقد عرفنا أن كل حكاية تتكون من بداية، وعقدة وحل. فأي هذه الأجزاء غير موجود، في رأيك؟ العرض، العقدة، أم الثلاثة؟"
"لا، لا. الأجزاء كلها هناك."
"إذن؟"
"لا أعرف. بالنسبة لي القصة ينقصها شيء ما. الحكاية مفهومة، حسنٌ؟ وهي جيدة وكل شيء. لكن شيئا ما ناقص. أكثر من هذا لا أستطيع أن أقول، اعذريني."
خامر الآنسة فورنيوس إحساس غائم بقلق لم يكن سيئا بتاتا. كان إحساسا تذكر أنها اختبرته قبل سنوات، عندما كانت تدرّس الناشئة في المعهد الذي أفلس. أحيانا، كان يباغتها أن طفلا يبدو أنه استوعب فكرة أو حقيقة لم يلقَّنها صراحة. وهي حالة غير معتادة، كالتي تواجهها الآن. لأن القصة بالفعل كانت ناقصة، لا لغياب حلقة ضرورية لمتابعة الحبكة وفهمها، ولكن لأنها، بالنظر لمحدودية قدرة تلاميذها على التفاعل مع النصوص، افتحصت القصص، وقلصتها إلى الحد الأدنى، الذي حذفت منه كل ما ليس مخلا بالحدث المروي. فأن يتمكن ذاك الفتى الذي أقر بالأمس بأنه لم يسبق أن قرأ شيئا قط، ولا حتى الفقرات المكتوبة التي تتخلل المجلات المصورة، (أن يتمكن) من التفطن للتعديل الذي أدخلته على النص لأمر صادم. "كيف عرفت أنه ينقصها شيء؟ هل قرأت القصة من قبل؟ أم قرأت قصصا مشابهة؟" احمرّ وجه التلميذ المسكين مرة أخرى. "كلا، يا آنسة. إنها أول مرة. وقد قلت لك أنني لا أدري. بالتأكيد أنني مخطئ. فأنا لم أقرا أبدا، وربما لهذا. زيادة على هذا، لا أتقن الكلام، حسن؟ لكن إنه مثل... لا أدري، كما لو أريتكِ رسما لبقرة بثلاثة قوائم، لنفترض. لا نحتاج أن نكون قد رأينا أبقاراً من قبل لنعرف أن شيئا ينقص الرسم. أقول هذا بكل احترام، حسن؟"
اندلع بين بقية التلاميذ ضحك أخمدته الآنسة فورنيوس بسرعة وحزم، كما لو كانت محاطة بأطفال وليس ببالغين شرسين. "حسن جدا؛ حسن جدا أن قلت ما تفكر به. لا تسعفنا الكلمات دوما في التعبير عن ما هي مجرد انطباعات. إلا أننا سنتعلم بالتدرّج لا أن نقرأ فحسب، وإنما أن نتكلم عما قرأنا. ونحن ما نزال في بداية العام الدراسي. فلنتحلَّ بالصبر والمثابرة، كما قلت لكم." ثم خاطبت تلميذا آخر وتلقت الإجابة المعتادة. وعند انتهاء الحصة وزّعت حزمة أخرى من القصص، هذه المرة من النوع التاريخي. كانت تهدف، بينما تزرع أُلفة القراءة، أن تستعرض أَوْجُهاً متنوعة من السَّرديات. ولما بقيت لوحدها في الفصل وضعت علامة بقلم الرصاص جانب اسم التلميذ الذي أثار فضولها. أنطولين كابراليس بيّخيرو. أيقنت الآنسة فورنيوس أنها لن تراه مجددا في القسم.
ومع ذلك، في الأربعاء التالي، بمجرد دخوله إلى القاعة، انتبهت لحضوره، في مكان منزوٍ، نظرته سارحة في الفضاء، ويتصنع اللامبالاة. لم تشك الآنسة فورنيوس في أن اهتماما حقيقيا بالأدب هو الكفيل وحده بأن يدفع ذاك الفتى للتعرض لسخرية رفاقه وغضب الأستاذة المحتمل، فأحست نحوه بما يشبه الامتنان.
مرت الحصة دون حوادث، وحرصت الآنسة فورنيوس على ألا تميّزه عن أقرانه بأن تخاطبه أو تنظر إليه مباشرة. لكن عقب انتهاء الدرس نادته باسمه وطلبت منه أن يبقى لحظة. انتظر أنطونيو كابراليس عند العتبة.
"القصة التي أعطيتك البارحة، هل كانت ناقصة أيضا؟"، سألته.
"لا، لا، بل مكتملة"، أجاب السجين.
"اصدقني القول، أنطولين كابراليس."
"يا آنسة، ستظنين أني ثقيل."
"لقد فهمتك"، قالت الآنسة فورنيوس بينما تفتش في حقيبتها، "وأردت أن أخبرك أنك لم تكن مخطئا كلياً. فقد اختصرت القصص بنفسي لتبسيطها. لكنني جلبت لك النسخة الأصلية بتمامها من قصة ذلك اليوم. أما نسخة قصة اليوم فلا، لأنها طويلة. لستَ ملزَما، لكن إذا شئت أن تقرأها، فافعل، وفي المرة القادمة أطلعني، إذا أردت، على رأيك. سواء هنا في القسم، أو عند الانصراف، حسب ما يريحك."
لف السجين الأوراق المطبوعة، شكرها بارتباك والتحق بزملائه، الذين راقبوا المشهد من الممر.
في المرة التالية، تخلف أنطولين كابراليس وأعاد للآنسة فورنيوس المطبوع الذي أعطته له آنفا.
"أعجبتك؟"
"بلى، لا بأس بها."
"هل لاحظت الفرق؟ ألم تجدها طويلة أو صعبة؟"
"كلا، لكني تفهمت سبب الحذف. وهو متقن."
"لندَع هذا جانبا"، قالت الآنسة فورنيوس بجفاف، فلم تكن تريد أن تطيل لقاء منفردا بسجين، ولو كان الباب مفتوحا وأمام أعين الآخرين، ولأنها لا تريد كذلك أن تقيم علاقة أبعد من الحدود المحكومة بالقوانين. "من كتب هذه القصة اسمه سومرست موم. كان إنجليزيا، مات قبل أعوام، وألف قصصا جميلة جدا. في مكتبة السجن يوجد كتاب له. ومنه تحديدا استخرجتُ القصص. إذا كنت مهتما بقراءة المزيد له، بوسعك أن تذهب إلى المكتبة وأن تقرأه هنا أو تستعير الكتاب لتقرأه في الزنزانة. لقد دونت لك اسمه في هذه الورقة لأنه صعب النطق؛ ما عليك إلا أن تريه للكتبي وسيناولك الكتاب. هذا إذا كنت مهتماً."
"شكرا جزيلا، يا آنسة"، قال السجين.
قبل أن تدخل إلى الحصة الموالية، مرت الآنسة فورنيوس على المكتبة، وطالعت بطاقة سومرست موم ورأت أن الكتاب أُعير لأنطولين كابراليس وأُعيد في غدِه. بعد انتهاء الحصة، سألته إن كان قد ذهب إلى المكتبة.
"أجل، يا آنسة. فعلت كما قلتِ وطلبت الكتاب."
"حسنا. قرأت إحدى القصص، عدا التي كنت تعرفها؟"
"طبعا، قرأتها كلَّها."
"في يوم واحد؟"
"كيف عرفت أني قرأتها في يوم واحد؟"
"لا أكتمك أني مررت على المكتبة واطلعت على البطاقة: احتفظتَ بالكتاب ليوم واحد ولا أصدق أنك قرأته من أوله إلى آخره."
"بإمكان حضرتك أن تعتقدي ما تريدين، لكنني قرأته."
"حسنا. أصدّقك. قل لي هل أعجبتك القصص."
"نعم. إنها محكية جيدا."
"ماذا تقصد؟"
"أعني هذا، أنها محكية جيدا. يوجد كتّاب آخرون يجيدون الحكي كذلك؟"
"بالطبع. وما أكثرهم. أأرشح لك أحدهم؟".
"إذا لم يكن ثمة إزعاج."
كتبت الآنسة فورنيوس في قطعة ورق: آرثر كونان دويل، مغامرات شرلوك هولمز. قرأ أنطولين كابراليس هذه المجموعة القصصية وأتبعها من عنده بـ دراسة قرمزية.
"ياه، إنها قصة طويـلة، أليس كذلك؟"
"إنها ليست قصة. بل رواية."
"عجيب أنه يقطع الحكاية ليضع أخرى داخلها ثم يكمل الأولى."
"هل ضايقك هذا؟"
"ولِمَ يضايقني؟ من يكتب يفعل ما يحلو له، لا مؤاخذة. هل كل الروايات هكذا؟"
"لا. ربما لم يكن ينبغي لك أن تبدأ من هناك."
"لعلي تسرعت، معذرة، لكني لم أجد من أستشيره، وريثما حضرتك تعودين، تصرفت حسب فهمي، تفهمين. الكتبي لا يفيد. إذا أمكنك، أعدّي لي قائمة، متى استطعتِ، وهكذا لن أزعجك كل مرة."
"هكذا، فوراً، لن أستطيع. لكن إذا ذهبنا إلى المكتبة ورأينا ماذا يوجد، أمكننا أن نرتجل قائمة."
"رائع، يا آنسة."
في شهر ونصف قرأ مكتبة السجن كاملة، وهي ليست ضخمة ولا متنوعة، تتكوّن أساسا من روايات تركها سجناء عندما أطلق سراحهم ومن تبرعات لجمعيات خيرية مندثرة. وبفعل هذا، تجاورت أعمال ذات قيمة نسبية مع كتب إرشادية وتحفيزية، روايات لأجاثا كريستي، طبعات منقحة من الفرسان الثلاثة والكونت دي مونت كريستو وعدد غير قليل من توافه من أصناف شتى. ولعدم خبرة أنطولين كابراليس وأنه يقرأ بنهم كما بفوضى، فقد اختلطت عليه الأمور. ولما رأت الآنسة فورنيوس حيرة تلميذها اتخذت قراراً جريئا بتنظيم قراءاته وأن تمِدَّه بكتبها. لم تكن تعرف إن كان ذلك إخلالا بالنظام السجني، لكنها حسبت أنها لا تضرّ أحداً. فكانت كل أربعاء، عندما تقصد السجن، تدرج كتابا ضمن الأدوات التعليمية التي تصرّح بها عند الولوج، دون أن تحدّد العنوان، وتسلمه لأنطولين كابراليس، فيردّ لها هو الكتاب السابق، وتصرّح به هي من جديد لدى الخروج؛ وهكذا لا يبقى إثبات ولا أثر  لكون أحد النزلاء يتلقى كتبا من الخارج دون الموافقة اللازمة. أجرت الآنسة فورنيوس، بدافع من الاحتراز والفضول، بعض التحريات عن أنطولين كابراليس وماضيه الجنائي. تم توقيفه منذ سن صغير وإدانته بعقوبات طفيفة على السرقة؛ وبعدها ارتكب سرقات بالسلاح الأبيض أو بمسدس اللعب، وذات مرة حين قاومت الضحية، استخدم العنف، ربما، كما أفاد بنفسه، دفاعا عن النفس، لكن النتيجة من الإصابات، مرفقة مع سوابقه، جلبت له العقوبة التي يؤديها الآن. كونُ مَحْمِيِّـها قليلَ الخطورة أراح ضمير الآنسة فورنيوس، خصوصا لصميم علمها أنه، لو كان أكثر المجرمين دموية وفسادا، ما كانت لتتصرف بطريقة مغايرة.
لم يكن في موقفها من أنطولين كابراليس أي عنصر أمومة. كان لديها ولدان صغيران، وكانت على دراية بفحوى وحدود غرائزها وأحاسيسها. كما لم يكن في مسلكها أي ملمح من نوع آخر: فأنطولين كابراليس متوسط القامة وعادي القوام، لكنه غير متسق في حركاته ومشيته، ورغم خلو قسماته من الدمامة، إلا أن شيئا ما في تعبير عينيه المتهرّب وفي تباطؤِه وفي الانطباع بانعدام الثقة يفقده كل جاذبيةٍ شخصية أو ذكورية: فحتى شخص ذو نظر ضعيف وحكم غير متحامل مثل الآنسة فورنيوس لم يكن ليتردد في أن يصف الهزيل بالتافه. في الواقع، لم يكن أنطولين كابراليس يخلّف لديها استظرافا، وكثيرا ما كان تواصلهما، على ما جمعهما من شغف بالأدب، مملا. ومع هذا، فإن ذلك الكائن الذي لا طعم لمعاملته قد ظهر بلا مقدمات في حياة إنيس فورنيوس كهدية مفاجئة في خضم نشاط مهني مُرْضٍ لكن تخيم عليه رتابة ثقيلة. كانت إعارة الكتب من قِبَلِ الأستاذة لتلميذ لها أقرب للتجربة منها لعمل خيري. كانت تتحرق شوقا لتعاين كيف سيستجيب شخص منعدم التكوين أمام أعمال تتطلب من القارئ جهدا وتمييزا.
كبداية، وبعد طول مراجعة وتأمل، اختارت قرن الأنوار، لأليخو كاربنتير، في طبعة قديمة أخذت أوراقُها في الاصفرار، وناولتها للسجين محذرة إياه من غموض الأسلوب، وكثافة الحكاية وطول النص، ومنبهةً، إن لم يطِق التعامل مع ذلك المجلد، ألا يَخِيبَ أملُه لا في نفسه ولا في الأدب عموما.
في الحصة التالية، أعاد لها أنطولين كابراليس الكتاب معلقا باقتضاب: "ممتاز". خيّل إلى لآنسة فورنيوس أن في صوت محدِّثها نبرة تحدٍّ طفيفة. تغافلت عن الأمر واستمرت تعيره كتبا بانتظام. ثم كانا بعد ذلك يعلقان عليها، في البداية بتبادل آراء وجيز صار مع الوقت مفصَّلا وشخصيا أكثر، لأنهما شرعا يختلفان في أحكامهما وازدادت النقاشات التي كانت تنحسر فيها رقعة الآنسة فورنيوس بالتدريج أمام زحفه. لكنها حتى عندئذ لم تراودْها غواية فرض سلطة الأستاذة ولا حتى الامتيازات الذي يخولها لها كونها إنسانة حرة وشريفة مقابل من هو، في نهاية المطاف، مجرد تعيس مسكين مجرّد من كل الحقوق. إلى أن خرجت عن طورها ذات يوم. كانت قد أعارته الحجلة، لخوليو كورتاثار، فأعاده لها أنطولين كابراليس مع تعليق بدا لها ازدرائيا. "إنه حاذق، لكنه لا يقنعني." كان الحجلة أحد الكتب التي أثرت في حينه بشدة في إنيس فورنيوس. لم تستسغ انتقاص مخاطِبها له. "عجبا، لقد غدونا بغتة متطلّبِين"، أجابت. ولما لم يقل شيئا، أصرت: "إنها بالنسبة لي رواية فذة". "إنها حذلقة"، قال. رباطة جأش القارئ المستجد الذي يمنح لنفسه حق أن يلقن معلمته دروسا أثار بالغا حفيظتَها، ليس فقط لما في ذلك من إهدار الاعتبار ونكران الجميل وإنما لأنها أحست في دخيلتها بقناعاتها عن أعمال كورتاثار تهتز.
كانت تواسي نفسها عن هذه الصدامات الكلامية العاثرة بالقول إن آراء السجين إنما هي خليط من موهبة خام وعدم تكوين. فبوسع ذلك الغلام أن يقول أي شيء، رصينا أو سخيفا تماما، بالحسم نفسه. لكن هذا الحزم كان صفة أسندتها له الآنسة فورنيوس لتطمئن بالها. أما في واقع الأمر، فقد كان أنطولين كابراليس مليئا بشكوك والتباسات لا يجد حرجا في أن يعرضها عليها. "لقد قرأت أشياء من مختلف البدان، والأساليب، والعصور، وهذا كله يدوّخني. ألا يوجد كتاب ينظم هذا كلَّه؟"، قال لها ذات يوم.
"بلى، بالطبع: كتاب أدب. سأجلب لك واحدا. ربما كان ينبغي لنا أن نبدأ من هناك. لقد أرخيت لك الحبل مديدا فشبّكتَه عليك."
"كيف لا، وقد كنت قبل حضور دروسك لا أفرق بين الألف ولفافة الحشيش!"
"ولا زلتَ كذلك، فلا تتوهّم."
لأنه، رغم حماسه لتشيخوف وستندال وبلزاك، في القسم كان أنطولين كابراليس تلميذا جد عادي. فعندما تطلب منهم الآنسة فورنيوس تحرير موضوع إنشاء، كان نص أنطولين كابراليس أكثر النصوص تدنِّيا. فعلا أضحى يرتكب أخطاء إملائية أقل وتركيبه بدأ يقترب من الصحة، على ما فيه من تكلّف، لكن لم تكن عنده فكرة واحدة لامعة ولا يستعير صورة بلاغية ذات رونق ولا يستعمل التفاتة أصيلة، ولا حتى نعتا صادما أو ملائما. "ماذا لو كان في حقيقته أبلها؟"، كانت تتساءل. ثم لا تلبث أن تصرف هذه الخاطرة، لأنها تحيلها إلى منطقة شخصية آلت على نفسها ألا توغِل فيها.
كما اتفقا، جلبت له الكتب التي استعانت بها عندما كانت تدرِّس في المعهد. كانت كتبا ذات مستوى أساسي، لكنها كانت تكفي أنطولين كابراليس لينظّم معارفه.
"عندك استعداد للدراسة"، قالت له إنيس فورنيوس. "لماذا لا تتقدم لنيل الثانوية؟"
"يهمني الأدب وحده"، أجاب، "أما بقية المواد فلا أفقه فيها شيئا. وعلاوة على ذلك، بماذا ستنفعني الثانوية؟"
"إنها أول الطريق. ماذا تنوي أن تفعل عندما تخرج؟"
"مثل الجميع: أبحث عن عمل، لا أجده، أسرق وأعود للحبس. خطة لا بأس بها: فهنا أنعم بالهدوء، ولدي وقت للقراءة."
"طالما تجد من يزوّدك بالكتب. فأنا لن أبقى هنا إلى الأبد."
في نهاية الدورة، منحته علامة نجاح لا تدعو للابتهاج. وعند الخروج من القسم قالت له: "بناءً على تحصيلك لا تستحق أكثر من هذا. وددتُ لو أعطيتك علامة أعلى، لأنك تعرف أكثر منهم، لكنك لا تُظهِر ذلك في التمارين، ولا يمكنني أن أقوِّمك بناءً على ما يحدث خارج الفصل."
أبدى السجين إيماءة لامبالاة. "لا يهم"، قال، "هكذا جيد. أظن أن العلامة عادلة، وعلى كل حال، لم يَقُم أحد بكل هذا لأجلي. أنا ممتن لكِ جدا. هل يمكنني أن أطلب منك معروفا أخيراً؟"
"إن كان في المستطاع"، أجابت حذِرة بطبعها.
"أعلم أنك ستعودين يومين قبل خروجك في عطلة. لديك كتاب لهنري جيمس؟"
"بلى؛ لا تقل لي أنه يعجبك."
"لم أقرأ له، لكن حسب ما تقول الكتب، يبدو أنه محترم. هلا أعرتنيه؟"
"إنه ممل."
"سنرى. فأنت وأنا نتبع مقاييس متباينة."
"مقاييس! من أين أتيت بهذه الكلمة؟"
"من حيث يؤتى بكل الكلمات، تبا، من معجم الأكاديمية الملكية. ولا أراه معيبا. تتلفظ بشتيمة ولا أحد يبالي، لكن إذا قلت مقاييس تهتز الدنيا على وقع الفضيحة. ما الخَطْب مع المهمشين يا ترى؟"
"هوّن عليك يا رجل، لا تكن محسوساً. حاولت فقط أن أكبح غرورك حتى لا تصير أضحوكة."
قرأ أنطولين كابراليس هنري جيمس وأعجبه. وقد تملّكت الحيرةُ الآنسةَ فورنيوس عند سماعها ذلك الفتى، وهو الذي لم يسبق أن قرأ في بداية الدورة حتى الصحيفة الرياضية، يصدر أحكاما عن السفراء.
"هل تفهم هذا التعقيد؟"
"لا شيء يستدعي الفهم هنا. لا يتعلق الأمر بذلك."
فلم تعد الآنسة فورنيوس تتساءل إن كان تلميذها مجنونا، وإنما إن كانت هي عاقلة. وأحيانا تخشى أنها ضحية لخداع ضخم، حاكه أنطولين كابراليس. أو سجين آخر يسخّر أنطولين كابراليس لتنفيذ مشروعه الجهنمي. لكنها مهما أعملت فكرها لا تتمكن من فهم ماهية تلك المؤامرة، ولا تتقبّل في صميمها أن أحدهم، ولو كان داهية، يحيك خطة إجرامية تشمل قراءة هنري جيمس.
ودّعا بعضهما ببرود. واستعادت الآنسة فورنيوس أستاذيتها، قبل أن تغادر السجن إلى غاية الدورة التالية، ونصحت من جديد تلميذها أن يدرس الثانوية. "وبعدها، إن أخفقتَ في هذا المسعى كما تتنبأ، يبقى بوسعك أن تسرق مكتبة قبل أن يزجّوا بك خلف القضبان."
بمجرد ما بدأت العطلة نسيت العمل وكل ما له صلة ببؤس العالم السفلي الذي تعيش منغمسة فيه سحابة العام. غير أنها ذات يوم، بينما كانت راقدة على الشاطئ ترقب ولديها اللذين كانا يلعبان حيث تكسُّر الأمواج الوديع، إذا بها تتذكر السجناء المساكين، الذين لا بد أنهم يتفصّدون في تلك الأثناء اللاهبة داخل الزنازين، وغلبها إحساس بالذنب مكدِّر. كان انفعالا عبثيا، لأن كونَها طليقة وتستمتع باستجمام مستحَق رفقة زوجها وابنيهما بينما يقضي المجرمون عقوباتهم شيء عادي تماما، لكن إنيس فورنيوس كانت تعلم أن تأثُّمَها المجرد ذاك كان يخفي تأثُّماً آخرَ محدَّداً، إذ تخيلت أنطولين كابراليس معتكفا في المكتبة، عرقانا ووسخا، يعيد قراءة الروايات الضحلة التي تجاوزها، فانقبض قلبها.
ذلك المساء ذاته أركبت الولدين في السيارة، وأخذتهما، متذرعة بالذهاب لتناول مثلجات، إلى البلدة الأقرب، حيث دخلت مكتبة خبِرت امتلاء رفوفها، وانتقت منها مقتنيات ليس بغير خبث، وطلبت أن يلفّوا لها الكتب، وقصدت البريد وبعثت الطرد إلى أنطولين كابراليس. وبهذا ارتاحت.
عند عودتها إلى المدينة، وجدت رسالة قادمة من السجن، بداخلها كتابة خُطّت على عجل تقول: "الآنسة فورنيوس المحترمة: تلقيت الكتب قبل أيام. وقد قرأت الثلاثة الأولى وبدأت في ظلال ربيع الفتيات. يا لطريقته في الكتابة! مع التحية، أنطولين كابراليس بيِّيخيرو."
ولا كلمة شكر. لم تحس إنيس فورنيوس بتحسّر إزاء ذلك وإنما بازدراء.
عندما استُؤنفت الدروس في السجن، انتظرت دون جدوى أن يأتي للسلام عليها. عقب أسبوعين سألت عنه أحد تلامذتها الجدد فأخبرها أن أنطولين كابراليس تولى المكتبة. الفضول الذي انتابها لرؤية إلى أي مدى سيصل غباء ذلك المتطفّل غلب كبرياءَها فعمدت بعد انتهاء الحصة إلى المكتبة، حيث وجدت أنطولين كابراليس وحده مستغرقا في مطالعة مجلد ضخم. بدا أن حضور الآنسة فورنيوس أزعجه.
"ماذا تقرأ؟"
"رجل بلا مزايا، لموزيل. بما أنني المكلّف هنا، أتولى شأن المقتنيات وأطلب ما أريد. وبالمحصلة، الأمر هنا سيان: فالأغلبية قد تأخذ منها مطالعة كتيب واحد لـمورتاديلو عشر سنوات."
"ألم تعد تدرس؟"
"كلا. هنا أتعلم أكثر. بالمناسبة، لا أذكر إن كنت شكرتكِ على ما أرسلتيه في الصيف."
"لا، لكن لا يهم."
التقته بعد شهور في أحد الممرات. حيّته بإيماءة من رأسها، إلا أن أنطولين كابراليس، بخلاف المتوقع، توقف، سألها عن حالها وعن سير الدراسة. فهمت إنيس فورنيوس أنه يريد أن يقول شيئا، ولعلمها أنه لن يأخذ زمام المبادرة، قالت له:
"وأنت، كيف يسير عملك؟ ما زلت تقرأ أم أنك قررت أخيرا أن تتجه للكتابة؟"
غامت عينا أنطولين كابراليس بالارتياب القديم.
"لِمَ تقولين هذا؟ هل أخبرك أحدهم بشيء؟"
"اعتبره حدساً. بالنظر للسرعة التي تمضي بها، فعاجلا أو آجلا كنت ستحاول مضاهاة ميغيل دي ثيربانتس."
تردد أنطولين كابراليس قبل أن يغمغم: "لقد أصبتِ. بدأت بكتابة رواية."
"آها، وهل أكملتها؟"
"كلا، ياليت. مزقتها."
"لم تعجبك؟"
"لا يتعلق الأمر بذلك. كانت كارثية. أنا غبي، وقد قلتِها لي وكنت محقة؛ لكنني أتخمت بالكتب وتصوّرتُني قادرا على المحاولة.  لكن القراءة والكتابة شيئان مختلفان. لا أمتلك الموهبة لهذه. ولحسن الحظ انتبهت مبكراً."
"كان ينبغي أن تدعني أقرأها قبل أن تكفّ عن المحاولة."
"لا، كنت ستضحكين عليّ."
"لا تخرّف. أنا أستاذة أدب، أمضيت سنوات عديدة في قراءة أشياء جيدة، وأخرى عادية، أو سيئة ورديئة. فكيف لي أن أسخر؟ سيكون كما لو أن طبيبا سخر من مريض لصحته المعلولة."
"لا فارق الآن. لقد مزقتها وانتهى الأمر. لم يكن ثمة ما يستدعي إبداء الرأي. أنا أعلم جيدا كيف كانت."
"ألست مدّعيا نوعاً ما؟"
"بل أنا واقعي. إضافة إلى ذلك، فقد تحادثنا كثيرا عن الأدب، وأعرف كيف تفكرين. وفي النهاية، ما الطائل من وراء ذلك: فلن أعاود الكرّة أبداً."
فكرت إنيس فورنيوس أنه كان ينبغي لها أن تجيبه: هكذا أفضل. لكن الغريزة التي تدفع النساء لبث التفائل عند الرجال ودعمهم عندما يرينهم ضعافاً وقد لطمتهم الصعاب، هذه الغريزة كانت أقوى من عقلها ورغبتها، فلم تدرِ إلا وقد سمعت نفسها تقول: "لا تفقد الأمل بهذه السرعة. امنح نفسك فرصة أخرى."
لمعت في نظرة السجين شرارة ساذجة وماكرة في آن.
"أتعتقدين ذلك؟"
كانت إنيس فورنيوس قد استعادت رباطة جأشها فهزت كتفيها.
"لا أعتقد شيئا. فلم أقرأ لك سوى نصوص التحرير التي أنجزتَها الموسم الماضي ولا قيمة لها."
هو أيضا كان قد استعاد جسارته فأجاب: "سآخذ ذلك في الاعتبار."
وكالعادة، لم يكن الافتراق وديّا. أزمعت إنيس فورنيوس ألا تنشغل بذلك الشخص الأناني الغليظ، ونفّذت مسعاها بقية الموسم الدراسي، دون أن يتفق لها معه لقاء جديد.
في العام الموالي، وكان قد تقدم الموسم، احتاجت الآنسة فورنيوس أن تذهب إلى المكتبة من أجل نسخ بعض المطبوعات فوجدت أن هناك كتبيا جديدا. سألت عن أنطولين كابراليس فأخبروها أنه حصل على إفراج سراح مشروط قبل شهور. بهذا الخبر اعتبرت الموضوع منتهيا. أحيانا، في مناسبات اجتماعية، حينما يهتم الناس بخصائص المكان الذي تمارس فيه التدريس، وحتى لا تخيّب انتظارات السامعين لحكايات ملتوية بتصريحها إن أبرز خصائص عملها في السجن هي الرتابة، تحكي حالة تلميذ نبيه ومضطرب نوعا ما لم يسبق له أن قرأ وانتهى به المطاف على دراية بهنري جيمس. لكنها سرعان ما اكتشفت أن هذه الواقعة قليلة الحماسة لا تجذب اهتمام أحد، فحذفتها من ألبومها.
وبانتهاء الموسم، سنحت لها فرصة الحصول على منصب مساعِدة في الجامعة، كان قد صار شاغراً، فلم تتردد في اغتنامها. ولما تركت السجن لم تأسف ولم تُسَرّ. حتى انقضت بضعة أشهر أدركت كم كانت تجربتها هناك بائسة ومحبِطة. لم تندم على الوقت الذي كرّسته للنزلاء؛ فقد كان يتوجب على أحد أن يقوم بذلك، ولو على سبيل إثبات أن حبسهم يمكن أن ينفعهم في شي، وأنهم ليسوا متخلًّى عنهم تماما وأن أمام كل واحد، إذا ما أجمع أمرَه، مستقبل، مهما كان ضبابيا. لكن مهمة إنيس فورنيوس لم تكن إصلاح البشر، وإنما تدريس الأدب، وفي هذا الجانب، فقد ضاعت سنوات السجن دون رجعة. لهذا، ولأن ذلك ما كان ليفيدها بشيء في الميدان الأكاديمي، فضّلت ألا تتحدث عن عملها السابق وأن تعتبر تلك الفترة فجوةً في ذاكرتها المهنية والشخصية أيضا. ولم يكن ذلك صعبا، لأن العمل الجديد جلب معه تحديات جديدة وآفاقا جديدة. وبفعل فقدانها للتواصل الدؤوب مع زملائها، وبالأخص بفعل انعدام الحافز بقيت متأخرة عنهم، فكان المجهود الإضافي الذي توجب عليها بذله لتواكب المسير يستغرقها ويرضيها في آن معا. كانت تقرأ بلا كلل وتحاول أن تطّلع على كل المستجدات.
بعد زمن، وقد تعوّدت على آلية عملها الجديد، تناهى إلى سمعها صيت كاتب بدأت الألسن تتناقل اسمه وقد انتزعت باكورةُ أعماله النقاد من سباتهم المزمن. هذا العمل الأول، وهو رواية قصيرة نسبيا، نشرته دار نشر صغيرة، تقريبا خُفيةً؛ بعدها بعام، صدرت رواية ثانية، أضخم، في دار نشر عتيدة رافقها إنزال دعائي واسع. كلتا الروايتين كانتا ذواتا طابع تقليدي، ولا تخلوان من عناصر حديثة، وتدوران حول أحداث وشخصيات من عالم الإجرام. هذه الصفة أبعدت إنيس فورنيوس أول الأمر عن قراءتها: فلم تكن ترغب أن تعرف المزيد عن الجرائم ومقترفيها.
كان مؤلف ذينك النجاحين يوقع باسم مَرْتين خ. فرومنتين، ولم يكن يُعرف عنه شيء، حتى إذا ما كان ذاك اسمَه الحقيقي؛ لم يكن يُـجري مقابلات، ولا يسمح بالتقاط صور له، ولا يشارك في مناسبات عامة، وكانت نبذة السيرة الذاتية في ثنية الغلاف تبوح بالقليل وتوحي أن حتى ذلك القليل كان مخترَعا. ثم سرعان ما أخبرت الصحف بأن مَرْتين خ. فرومنتين كان فعلا اسما مستعاراً يختفي وراءه مجرم ذو ماضٍ مشبوه اسمه أنطولين كابراليس بييخيرو. تفاجأت إنيس فورنيوس من الأثر الضئيل الذي تركه لديها ذلك الكشف. كانت من مدة قد طردت من حياتها المرحلة السجنية ومكوٍّناتها، وكان أنطولين كابراليس بالنسبة لها مجرد ذكرى باهتة وتافهة. أن يظهر مجددا وقد صار كاتبا شهيرا لم يبدُ لها شيئا جيدا أو سيئا. "إذن تبع في النهاية نصيحتي وكتب رواية أخرى"، هكذا فكرت. "ياللروعة."
وبما أنها كان لا بد لها، رغم كل شيء، أن تقرأ ولو أحد الكتابين، فقد اقتنت نسخة من الرواية الأولى، وأخذتها إلى البيت مستعدة أن تقرأها من دون أية أحكام مسبقة. ومع ذلك، فقد فتحتها آمِلةً أن تجد مقدمة للمؤلف يكون فيها، وإن غاب ذِكر اسمِها (فلو كان الأمر كذلك لأخبرها أحدهم)، إشارة ما تستطيع وحدها فكَّها. لم يكن ثمة شيء من ذلك: تبدأ الرواية من الصفحة الأولى وتستمر بوتيرة ثابتة حتى الختام. قدّرت الأسلوب، والاستعمال الذكي للتقنيات الأدبية، ووصف الأجواء، وحبكة وشخصيات مثيرة للاهتمام، بيد أن الرواية ككل لم تجذبها. وهذا ما أفصحت عنه لما سنحت لها الفرصة في العلن وفي المجالس الخاصة، لكنها لم تصرّح في أي لحظة بالمعرفة الشخصية التي جمعتها والمؤلف. لقد كان قراراً عن تخطيط. فأن تكشف عن علاقة انفردت بها مع كاتب شهير وغامض كان حتما سيفيد مسيرتها المهنية، ولم تكن الآنسة فورنيوس بلا طموح، لكن هذه العلاقة ذاتها ستحولها داخل الوسط الأكاديمي إلى مختصة، وفي تلك الحالة تحديدا، على الأقل بالنسبة لها، إلى طفيلية تقتات على معرفتها بشخص تذكره بازدراء أكثر من أي شيء آخر. لكن كان ثمة دافع آخر لكتمانها. فلسبب ما لم يشأ أنطولين كابراليس أن يعرّف بنفسه بادئ الأمر، وبالتالي فإن إعلانها عن معرفتها به سيكون بمثابة خيانة، ليس في الوسط الأكاديمي وإنما في الوسط الإجرامي، الذي احتكت به الآنسة فورنيوس في زمن ما، ولو بشكل هامشي. لا وشاة في السجن، هكذا رددت مع نفسها؛ وبدا لها من قبيل الفكاهة أن تترك فرصة ذهبية تفلت لكيلا تخالف تلك القاعدة التي تحكم سلوك المجرمين، وأشعرها ذلك في دخيلتها بالفخار. أما فيما عدا ذلك، فما زالت تعتقد أن تلميذها القديم تعوزه الموهبة، وكانت توقن أن فقاعة مكانته المرموقة، التي صنعها كونه مستجَدّا لا الجدارة، عما قريب ستنفجر.
وتكفّل الزمن بتكذيب هذا التنبؤ. فقد راحت شهرة مَرْتين خ. فورمِنتين تتسع مع كل كتاب جديد. ترجم للغات كثيرة، ونال جوائز وطنية وأجنبية. وبما أن شخوصه كانوا دائما مجرمين، ذوي تصرفات عنيفة وحيوات تأبى الاستقامة، فقد اعتُبِر ضمن صنف الرواية السوداء، وقورِن بجان جينيه ولويس فرديناند سيلين، وغوركي صاحب الحضيض، ودراما غارثيا لوركا الدموية، والمسرحيات العبثية لبايِّ إنكلان، ووصلت المبالغة ببعضهم إلى ذكر دستويفسكي ودانتي. وتكاثرت حول أعماله أطروحات الدكتوراة. بينما اصطدمت محاولات عدة لاقتباس الروايات للسينما برفض قاطع وبلا تفسير من قِبَل المؤلف. اقترحوا عليه أن يقدّم ترشّحه لولوج الأكاديمية الملكية الإسبانية مع ضمانة قبوله بالإجماع، غير أنه اعتذر، قائلا إنه لا يستحق ذلك الشرف. وليتفادى التعرّض للتطفّل نقل مسكنه خارج مدينة مسقط رأسه؛ ثم إلى خارج البلد. وقد فاقمت هذه السرية شهرته، وصنعت حوله أسطورة صارت تتغذى بإسهامات دارسيه، وبمباركة دار النشر. فحُكِيَ أنه في شبابه انخرط في كثير من أعمال القسوة والعنف التي يصفها بدقة، سواء كفاعل لها، أو متواطئ معها، أو محرِّضٍ عليها؛ وحُكِيَ أنه ما زال على صلة وثيقة بأوساط الجريمة المنظمة، وأن قصصه كانت شذرات من سيرته الذاتية نكّرها بعناية، لكنه بالكاد سعى لتجميلها. ثم ترسخت بعدُ الشهرة والأسطورة، ولكون مغامراته المحتمَلة غدت معروفة على نطاق واسع فلم تعد مدار الأحاديث. الآن أهميته صارت مستجدّاتِه الأدبية، ووحدَها أرقام مبيعاته تستثير التعليقات.
بمرور الوقت أمسى تخفّي الكاتب الزئبقي أقل صرامة. بما أنه لم يعد محطّ الأنظار، فقد سمح بانفراج في سِرِّيَّته المتزمِّتة. وهكذا ظهرت صورة واحدة له في باب الثقافة من الصحف وعلى ثنيات أغلفة كتبه، ولاحقا في ملصقات ضخمة في أروقة الكتب من المتاجر الكبرى. وقَبِل بإجراء بعض المقابلات مع صحفيين محددين من مطبوعات مختارة؛ ولطالما جاءت تلك المقابلات مخيبة للآمال فلم يكن يدلي خلالها بأي رأي، وكان الإبهام في الموقف يخيم على كل أجوبته.
 عندما رأت إنيس فورنيوس صورة تلميذها القديم أحست بما يشبه الرِّقة. كان قد هرم وازداد وزنه، وشاب شعره، وقد انحسر عن جبهته، وأعفى شاربا ليس بالخفيف ولا بالكث، ويضع نظارتين أنيقتين بلا إطار، ويرتدي ثيابا متناسقة. وما حال كل هذا بينها وبين أن ترى في الحال نظرة عينيه المتهرِّبة، وتجعيدة انعدام الثقة على الجبهة، والشفتين المزمومتين، وانقباض الهيئة. ولم يثنها شيء مما رأت أوسمعت أو قرأت عن قرارها بكتمان سرِّ ماضيهما المشترك.
كان تبقى عام واحد على تقاعدها، لما تناهى إلى سمعها خبر أن الكاتب الشهير مَرْتين خ. فرومنتين، وكان حينها قد صار أحد أعلام الأدب في البلاد، سيلقي محاضرة في قاعة الندوات بالجامعة. مهما كان الموضوع، قررت الآنسة فورنيوس الحضور.
رغم وصولها باكرا جدا، وجدت صفا طويلا قبلها. طال انتظارها، وتعبت، وتفطّنت لما يشوب الموقف من الهُزْء، وكادت أن تغادر. عندما فتحوا الأبواب تمكنت من الجلوس في أحد الصفوف الأخيرة. وعند الساعة الموعودة، وسط ترقّب جمّ وصمت مُجِلّ، دخل الكاتب المرموق مصحوبا بأعلى مناصب في الجامعة. صعد المنصة، واحتل مقعده، وبينما كان يستمع بغير اهتمام لما كانوا يهيلون عليه من الثناء، أجال بصره في القاعة الغاصّة. خُيِّل للآنسة فورنيوس أن نظراتهما التقتا خلال جزء من الثانية، لكن ما من شيء أكد لها أنه عرفها. ولم تكن تنتظر خلاف ذلك بعد كل الزمن المنقضي. ولم ينتبْها أي شعور أثناء ذلك الاتصال العابر. ولما حان دور ضيف الشرف، ألقى مَرْتين خ. فرومنتين خطابا مناسَباتياً مليئا بعبارات مكرورة حسنة النوايا. وقبل إنهاء كلمته، خفض صوتَه وقال بنبرة بالكاد تُسمَع، وبتعثّر من لم يحضّر تلك الفقرة من الخطاب لا كتابةً ولا تفكيرا: "في الماضي كنت مجرما. إنه شيء معروف ولا معنى الآن لإنكاره. أريد فقط تبديد هالة الرومانسية التي قد تحيط بذلك لدى من هم، أمثال حضراتكم، على الجانب الصحيح من القانون. ليس المجرم بطلاً، وإنما كائن مَقيت يستغل ضعف البشر. كنتُ مرصوداً لاتباع ذلك الطريق حتى نهايته التعيسة لو لم يفتح لي لقائي مع الأدب فرجة أنفُذ من خلالها إلى عالم أفضل. لا مزيد لدي لأضيفه. بوسع الأدب أن ينقذ حيوات بائسة وأن يكفّر عن أعمال رهيبة؛ وبالعكس، فبوسع أعمال رهيبة وحيوات منحطّة أن تنقذ الأدب وأن تبثّ فيه حياةً لولاها لصار حروفاً هامدة."
استمر بعدها في الحديث قليلا. وأخيرا ختم شخص آخر اللقاء، بعد أن أعلن ألّن يكون هناك نقاش ولا توقيع كتب، وتوارى المحاضِر ورفقته عبر باب جانبي. وخرجت إنيس فورنيوس ضمن حركة الحشد البطيئة. وفي الشارع بدا لها أن تتمشى إلى غاية ساحة كطلونيا وأن تستقل المترو من هناك. كانت تسير في ساحة أونيبرسيداد مستمتعة بجو الليل الناعم وتشغل بالَها بتوافه، عندما أحست بغصة في الحلق أجبرتها على التوقف. لم يكن بيدها حيلة لمنع ذلك، فأجهشت بالبكاء. اقترب بعض المارّة يطمئنون عليها. أجابتهم أنها بخير، ولجأت إلى مقهى، بخلاف عادتها. طلبت قنينة مياه معدنية وشربت حتى استعادت هدوئها. لو أرادت أن تشرح ما حصل لها لم تكن لتقدر. لم يؤثر فيها مرآى تلميذها القديم وقد أصبح شخصية مشهورة ولا فكرة أنها أسهمت في إصلاح مجرم، وهو، من جهة أخرى، ما لم يكُنْهُ أنطولين كابراليس قَطُّ. لكن كانت تغمرها فكرة أنها صنعت كاتبا. لقد أُتيح لحياتها المهنية المديدة، المُضْنِيَة، الشريفة، الرتيبة، المملة والتي بلا معنى، لحظة عظَمة، وتلك اللحظة لم تكن تجلّياً، ولا فكرة عميقة، ولا خلّفت أثراً لا ينمحي؛ وإنما كانت لقاءً خاطفا، سطحياً، مشحونا بالارتياب وسوء التفاهم. لكن تلك اللحظة وُجِدت، وآن الآن للأنسة فورنيوس أن تتقاعد، أن تجري جرداً لحياتها وأن تستريح.
في ناحية أخرى من المدينة، كان مَرْتين خ. فرومنتين يعتذر لمضيفيه ويحتجّ بالإنهاك وتوعّك طفيف ليلوذ بالفندق دون أن يحضر العشاء الذي أُعِدّ له. بخيبة ولكن بلباقة، تركه مضيفوه يذهب. في الفندق أغلق دونه باب الغرفة، وطلب من خدمة الغُرَف عَشاءً خفيفا، وجلس إلى الطاولة، تناول ورقة وبدأ يكتب رسالة.
"الآنسة فورنيوس المحترمة:
أشكر لك جزيلا لطف حضور لقاء هذا المساء. فلا شيء أثقل من هذه الاحتفاءات الأكاديمية، التي لعلك قد سئمتِيها. لكني كنت سأمتنّ لكِ لو أعلمتني قبلها، فحينما لمحتكِ بين الجمهور اضطررت لبذل مجهود كبير لكيلا يغمى علي من الانفعال أو أنخرط في البكاء كالأحمق، أو، باختصار، أن أرتكب ما يثير الاستهزاء أكثر مما كنت أفعل. لطالما كانت معاملتك مداهِمة، إذا لم يزعجك أن أقول لك هذا. طولَ مدة اللقاء بقيت أتردّد بين أن أخاطبك وأطلب منك أن تنتظريني عند الخروج أو أن أتظاهر بأني لم أَرَكِ. كان مبتدأ اندفاعي نحو الاختيار الأول، ثم فكرت أنك إذا كنت حتى الآن لم تسعي للتواصل معي، عبر دار النشر أو بأي طريقة سواها، فلِزامٌ عليّ أن أحترم رغبتك. ولهذا السبب تحديدا لم أفعل أنا شيئا، طوال كل هذه الأعوام، للتواصل معك. في الواقع، لا أستغرب ألا تريدي أن تكون لك صلة بي، لا باللص الحقير الذي كنتُ، ولا بالدمية التي أنا الآن. لقد أدركتِ كل شيء منذ البداية وحذّرتِني، غير أنني أعماني الجهل والغرور. وها أنت ترين إلى أين قادني ذلك التسامُق. لكني أريدك أن تعرفي أنه لم يمرّ يوم، خلال كل هذه السنوات، لم أتذكرك فيه. كنت أرغب بشدة في الحديث معك، أيتها الآنسة فورنيوس.
أنا متأكد من أنك لا تذكرين، لكني تساءلت غير ما مرة ماذا كان ليحدث لو لم تتحملي عبء حذف بعض الفقرات من القصص التي كنت توزعينها علينا تخفيفا للنصوص. أغلب الظن أني كنت سأقرأ نسختي بلا انتباه. فسومرست موم صانع بلا أهمية، وقد انقضت أيام شعبيته. سبق لي أن قرأت شيئا قبل ذلك اليوم؛ فأحدُنا أيام شبابه عليه أن يزجي وقته بشيء ما ولا يُتاح في المتناوَل دوما فتاة أو تلفاز. غير أني لم يسبق أن قرأت بمعايير أدبية، كما هو واضح. لقد كنت صعلوكا، لا فاسداً. ومع ذلك فإن ذلك الحذف أورثني حيرة هائلة، خاصة لعدم معرفتي مصدرَها. لاحقا فهمت ما حصل لي وهو شيء من إثارة الفضول بمكان بحيث ينبغي لي أن أقصّه عليك. لم أخبر به أحداً قطّ. ما حصل هو أنني فهمت بالضبط وفجأة، ودون سابق معرفة بأي شيء، ما هو الأدب. وليس ما كنت تقولين، ليس أنه وسيلة لحكاية القصص، وللتعبير عن الأحاسيس أو لنقْل العواطف، وإنما أنه شكل. شكل ولا شيء غير ذلك. أنا واثق من أن عملك الطويل في التدريس لم يبلّدك وأنك تفهمين قصدي. القوانين البسيطة وإنما الحتمية التي بمقتضاها يعني النص أكثر من مجرد بقع حبر على ورق: بنية الحكاية، حجم الفقرة، طول الجملة، النغم الداخلي للكلمات عندما تُمزَج بين بعضها البعض، وإيقاع المجموع. والخطة التي تنتظم كلَّ هذه العناصر.
بعد التهام بعض الكتب، تلك التي تفضّلتِ بإعارتي وتلك الطبعة اللعينة لبروست التي بعثتها لي خلال العطلة، خطرت لي فكرة أني بدوري أستطيع أن أكتب شيئاً مماثلا. كنت أعرف أساسيات الصنعة، كما وفّرت لي القراءات الأدوات اللازمة، فشرعت أكتب. وكان جهلي لا يتقاصر عن غروري. لم تكن عندي قصة لأرويها ولم أكن أحتاجها. كل ما كان يهمني هو الشكل. إن الكِبْر خطيئة تلقى عقابها بسرعة. في غفلة مني انتهيت إلى أن أكتب رواية تجريبية. ولما انتبهت، مزقت ما كتبت وأقسمت ألا أعود لكتابة شيء. ربما لو كنت أصررت على ذلك القرار لانتهى بي الأمر لما أكره. قلتِ لي أن أواصل وقد واصلت. تعرفت في السجن على خَلْقٍ كثير، رجال يمكن الاعتماد عليهم في الأغلب. أما أنا فكنت حثالة، لكني كنت أعامل الناس باحترام وكنت أجيد الاستماع. فحكوا لي قصصا كثيرة. لم تكن قصصا عظيمة، وإنما قصصا تافهة، عن عثرات غبية، واضطرابات نفسية تتخفّى بالشغف، ومآسي مزيَّفة. أيُّ مستمع كان ليسأم بعد خمس دقائق. أنا أيضا كنت أمَلّ، لكني كنت أتحمّل لكي لا تنهال عليّ لكمة، ثم بعدها لأني أدركت أن تلك القصاصات الحزينة من حيوات خاطئة كانت تُمِدُّني بالمادة التي أحتاجها لتأليف كتب من خمسمئة صفحة.
يخدع النقاد أنفسهم: إذ يرون كتابا مكتملا ويحسبون أن كل الحركات من البداية كانت مصوّبة نحو غاية محددة. لا أبعدَ عن الصواب من ذلك. فالكاتب لا يسخِّر إلمامَه بالتقنيات لخدمة الحكاية التي يريد سردها، وإنما يسخِّر الحكاية لخدمة إلمامه بالتقنيات التي يبتغي استخدامها. المهم، لا أريد أن أضجرك بنظريات. فقط أخبرك بما تعرفين: ما زلت ذاك المنبهر كما قبل، ونجاحي يرجع لسوء تفاهم. فبينما يظن القراء أنهم يطالعون قصصا معذَّبة، محمّلة بالمعاني، هم يقرأون فقط ألاعيب منسوجة لاستدراجهم.
في النهاية، آنت ساعة خروجي من السجن، وبحثت عن عمل يسمح لي أن أتدبّر معيشتي وأن أكتب في أوقات فراغي. في عدد من المحلات شغّلوني كحارس ليلي. ظناً منهم أن ماضيَّ الإجرامي زوّدني بمعرفة عملية عن أسلحة السرقة وأن بوسعي منعها؛ وظنا منهم كذلك أن إطلاق سراحي المشروط يضمن نزاهتي. كانت أعمالا مملة، لكن الحبس أكثر إملالاً، وكانوا ينفحونني ببعض النقود، وبما أنه لم يكن ثمة ما يُعْمَل، وفي حين لم يكن بمقدوري أن أكتب، كنت أستطيع أن أكرِّس ذهني لتنظيم ما كنت سأسطره لاحقا في النُّزُل. أكملت أول رواية، أخذتها لدور نشر عديدة حتى وافقت إحداها على نشرها، وها أنت ترين ما صرت إليه. الآن أجني أموالا بلا تعب وأجوب بلاد الدنيا. أما حياتي الشخصية ففي عزلة ترضيني.
أنا مدين بكل هذا لكِ. ألا تكون هذه المسألة غير المتوقعة قد دارت في حسبانك ولا حتى خطرت لك قطّ لا يقلّل من حجم الدَّين. ولا أدري كيف أسدّده لك؛ وإذا ما بدت لك طريقة فأخبريني. أنا بطبعي ناكر جميل، لكن الأمرين لا يتنافين؛ فالعِرفان حالة وجدانية عند الأناس الأخيار والعاطفيين. أما الدَّيْن فشيء موضوعي. الامتنان يُعبَّر عنه؛ أما الديون فتُسدَّد. وأنا مدين لك.
وفي المرّة القادمة، أعلميني مسبقا.
تلميذك،
أنطولين كابراليس بيِّيخيرو."
أدخل الرسالة في ظرف ودسّه في جيبه. لم يعرف إلى أين يرسلها، لكنه خمّن أن ناشريه أو وكيله لن يصعب عليهم أن يتحرّوا عن مسكن أستاذة أدب عملت في مرحلة من حياتها في سجن الرجال. ترك الرسالة على الطاولة، وبما أنه لم يكن نعسانا، رأى أن يخرج لنزهة.
لطالما ارتبطت لديه برشلونة بحقبة عصيبة من حياته، لكنه منذ أن استقرت به الإقامة في الخارج لم تعد المدينة تبدو له عدوانية. هبط عبر ممشى غراثيا، عبر ساحة كطلونيا، ذرع لارامبلا وانتهى به المطاف بين دروب الأحياء المعتمة حيث قضى شبابه المضطرب. لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، لكن بعض الأشياء ما زالت على حالها: فقبل أن يتوغل في زقاق معتم ومنعزل وقبل أن يحدث شيء، أدرك أنه وقع ضحية لسطو. أمسكه فتى من ذراعه ولوّح بسكين أمام عينيه. أحس في خدّه بلهاث الفتى. "لا تصرخ." "لن أصرخ." "اخرس!"، قال الفتى. بعد أن انقشع عنه الفزع الذي سببته المباغتة أكثر من الخطر الحقيقي، ظل أنطولين كابراليس هادئا. كان يعرف ألن يقع شيء إذا لم يقاوم، وإذا لم يتوتر وإذا لم يتظاهر ببرودة الأعصاب. كل شيء يكمن في أن يتصرف كما يتوقع الفتى أن يتصرف رجل محترم غافل وثري. في زمن مضى لجأ هو نفسه لتلك الطريقة، التي غالبا ما آتت أُكلها. "النقود في الحافظة والحافظة في الجيب الداخلي للمعطف. يمكنك أن تخرجها بنفسك. الساعة لا تساوي الكثير، لكن سأعطيها لك؛ ولا أحمل شيئا آخر ذا قيمة"، قال. أخذ الفتى الحافظة ودسها في جيب سرواله. وبينما راح ينزع الساعة من معصمه قال: "أعِد لي الوثائق. لن تنفعك بشيء. وإذا تركت لي شيئا لأركب التاكسي..." لم ينتظره الفتى حتى ينزع الساعة وانطلق مسرعا.
عندما بقي لوحده، توجه أنطولين كابراليس لمخفر الشرطة ليبلّغ عن سرقة الوثائق. كان عازما أن يرجع إلى مكان إقامه يوم غدٍ، وشكّل له الحادث عائقا. لما أدلى باسمه في المخفر، استقبله العميد بنفسه في مكتبه. "لقد قرأت كتبك كلَّها تقريبا. تشرفت بلقائك، ولو كانت الظروف مؤسفة." أنهى إجراءات المحضر وهمّ بالمغادرة. عرض عليه العميد أن توصله سيارة الدورية. "لا داعي للإزعاج. فندقي ليس بعيداً، كما لا يمكن أن يسرقوا مني شيئا آخر." فألحّ العميد: إذ الشوارع تستفحل خطورتها كل يوم. سيكون الرفض بمثابة انتقاص، إذ على الرغم من الإعجاب الذي يكنه له، فإن العميد يبقى رجل شرطة، بينما هو مجرم قديم ونزيل سابق بمؤسسة سجنية.
أمام الفندق ودع رجال الشرطة الذي رافقوه. "هذا من لطفكم." "في خدمتك." في البوابة المجاورة للفندق لمح ظلّيْن متربّصين. لما انطلقت سيارة الدورية مكث هنيهة مقابل الباب ليعطي الوقت للظلّيْن ليخرجا من مخبَئهما ويقتربا منه.
"وشيتَ بنا، قل الحق. ما ألعنَك، سحقاً!"، قال رجل كهل، ما زال ضخم الجثة، نصف وجهه محروق. بصحبته الفتى الذي سطا عليه قبلُ. "لحسن الحظ أنك كنت تحمل بطاقة الفندق في الحافظة؛ لولا ذلك ما كنا لنجدك. هذا ابني. قلت له ألف مرة أن يبتعد عن الشارع، لكن الوغد، لا حياة لمن تنادي. أن ذلك خطِر، تباً. أنها نقود سهلة وكذا وكذا، لكن إذا اصطادوك، تذهب إلى الحبس، قل له. وفي النهاية، لِمَ يريدون المال؟ لا لشيء: ليدخنوا اللفافات ويشتروا ثياب المخنثين." "هكذا هم الشباب"، قال أنطولين كابراليس. "ليس لديك أبناء." "كلا." خاطب الرجل ذو الوجه المحروق ولدَه. "هيا، أيها السافل، تعال هنا واعتذر لهذا السيد." "لا داعي. كان يؤدي عمله وأداه جيداً"، قال أنطولين كابراليس. الآخر كان منشغلا بشبله. "هذا السيد الشهير جدا الذي تراه هنا وأنا كنا صديقين قبل عدة سنوات، أتصدِّق؟ هذا السيد الشهير جدا وأبوك الحقير، صاحبان، يا للدنيا. فأنت تذكرني، أم لا؟"
"طبعا أذكرك"، قال أنطولين كابراليس. كان فعلا يذكر الشخص ذا الوجه المحروق: بلطجي أرعن تصادف معه في السجن والذي في بعض الأحيان هدّده وأهانه وضربه. لكن كل هذا ينتمي لماضٍ كالوهم، أعادت صياغتَه شهرةُ الكاتب، التي حوّلت صداقته الحقيقية أو المخترعة إلى غنيمة. "حسنا، ها هي ذي الحافظة. عُدّ النقود، لا ينقص منها شيء. لما رأيت مالكَها أوسعت هذا المتذاكي رفساً وجئنا رأسا لإعادتها لك. افترضت أنك ستكون قد ذهبت لتبلّغ عن السرقة وأننا سنجدك عند الباب. لكن لم أعمل حسابا أن تكون بصحبة البوليس، سحقاً. لحسن الحظ أنك رأيتنا وانتظرتنا دون لفت الأنظار. فلو كشفتنا لوقعنا في ورطة." "الأصدقاء لا يصنعون ذلك"، قال أنطولين كابراليس. تردّد البلطجي؛ ثم قال: "حسنا، سنذهب الآن. جميل الفندق، آه؟ تستحقه، تباً، فلسبب ما أنت مشهور. هل أتت معك زوجتك." "كلا. أعيش وحدي." "لكنك لم تعدَم النساء." "لا أشتكي"، أجابه عالما بأن ذلك ما يريد الآخر أن يسمع. ثم أضاف: "أتريد أن تدخل؟ يمكن أن يقدموا لنا شيئا في المقصف." نظر البلطجي إلى أنطولين كابراليس شزراً، محاولا أن يحدد ما إذا كان جاداً أم هازلا، وما إذا كانت الدعوة عربون صداقة أو فخاً. في الختام قال: "لا، شكرا. يجب أن يعرف المرء أن يتواجد في المكان الذي يناسبه. نحن هنا لا محلّ لنا، كما لم يكن لك محلّ في الحبس. هذا ما يخصّك: الكتب والفنادق. في السجن كنت رعديداً. أما أنا، بخلافك، فهنا سأكون نشازاً. فرصة سعيدة، أيها الهزيل." 

انصرف الأب والابن سيرا عبر ممشى غراثيا. صعد أنطولين كابراليس إلى غرفته. رأى على الطاولة الرسالة التي كتبها للآنسة فورنيوس. مزقها إربا، وألقاها في سلة القمامة. لم يكن ثمة داعٍ لحرمانها من أملها، ومجيئها للمحاضرة دليل على أن ذلك الأمل موجود. لقد طوّرت هي الموهبة الكامنة فيه والتي لم يتخيّلها أحد قبلها. ليس ذنبها ألا تصلح تلك الموهبة لغير بيع السفاسف. في صميمه، قال لنفسه، ما زال ذلك الذي كان: كائن زائد، مختلِس. البلطجي الذي تحادث معه لتوه، على جهله، كان يعلم ذلك. لكن ليس الآنسة فورنيوس. ليس الآنسة فورنيوس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Blockbuster Movies: Entertainment and Indoctrination