لا أحترم كل الاختيارات

للاستماع للنسخة الصوتية، هنا.

في ختام حلقة على قناةٍ مغربية ناقشت أحد التكاليف الشرعية، ألقت المذيعة العبارة الهادمة: "نحترم كل الاختيارات".

أعلم أن العبارة لم تعد صادمة ولا مستهجَنة، ولا تستوحشها الآذان ولا تنفر منها النفوس. مع الأسف. فبعد مسيرة طويلة من ترويض "الرأي العام"، صار ما كان صادما - مألوفاً جدا ومستساغا، ولا يُتوقف عنده وليس محلَّ بحث؛ وبالمقابل، أصبحت مساءلة هذا المألوف هي التي تستثير الاستغراب.

أما أنا فلا أحترم كل الاختيارات. ولا أحترم كل الآراء. ولا أحترم كل المعتقدات. ولا أحترم كل السلوكات. لأن من الاختيارات ما يودي إلى التهلكة؛ ومن الآراء الغبي وضيق الأفق والمغالي والمتحامل والمحابي؛ ومن المعتقدات ما هو بـاطل؛ ومن السلوكات المؤذي والمزعج والمقرف والسخيف. فعلى سبيل المثال، لا أحترم "خيار" الشذوذ الجنسي. ولا أحترم "رأي" الصهيونية. ولا أحترم الوثنية. ولا أحترم اللباس الفاضح. فلِمَ ينبغي لعاقل أن يحترم كل هذا الخليط، بلا تمييز ولا تفصيل؟ أم أن المقصود هو هذا بالضبط، أي التعبير المجمَل عن الاحترام ليدخل تحته كل شيء، الطيب منه والخبيث على حد سواء؟

 لست مطالَبا أن أحترم عقيدة لا أومن بها، كما لا أطالب من يخالفني بأن يحترم خياراتي. هذا هو الوضع المنطقي العادل: الحق يقابل الباطل، والصواب يضاد الخطأ، والإحسان يخالف الإساءة... والفروق بين هذا وذاك شاسعة، والتمايز بينهما قد يغيم في حالات فيصعب إدراكه، لكنه لا ينقلب أبداً إلى تطابق. لكن الليبرالية، دين العولمة، تذيب هذه الفوارق، وتلغي التمايز، فتجعل كل ما سبق يستوي في القيمة والقابلية للاعتناق والأحقية في التواجد والتعبير، في طمس صارخ للفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وهذه الليبرالية لو عُرِضت دفعة واحدة على الشعوب المسلمة لرفضتها رفضا قاطعا، لكنها سُرِّبت إليها على مهل، وبُثَّت إليها بكل وسائل إيصال المفاهيم لكيلا يبقى أميّ ولا متعلم بمعزل عن التأثر، فتعوّد الناس أقوالا لم تكن تجري على ألسنتهم من قبل، وتكرست مسلّمات لا أصل لها في الدين بل هي تخالفه؛ وهكذا تشربت العقول المعايير الليبرالية على جرعات ميسّرة وفعالة. ومن هنا دخل الخلل، فتغيير المفاهيم هو مبدأ تغيير المجتمعات. ولما كان الإسلام ذاته عصيا على التحريف والتبديل، لجأ خصومه التاريخيون إلى تغيير بيئة المجتمعات المسلمة، فتغترب المفاهيم الشرعية وتمسي الأذهان أجنبية عن الوحي. فحدِّث العامة بعدَها عن إيمان وكفر، وأمرٍ بمعروف ونهي عن منكر، وولاء وبراء! لقد قطع الاستلاب شوطا بعيدا، وأيُّ حديث بمقتضى التمايز الشرعي يُرَدّ بدعوى "الناس أحرار"، و"اهتم بنفسك ودع الآخرين وشأنهم"، و"لا تحكم على غيرك"، و"الدين مو هيك"، و"العبرة ليست باللحية والقميص"، و"الإيمان في القلب" (يُستدَل بها في غير موضعها)، وتلبيسات أخرى لا تفتأ تتكاثر.

والعبارة التي يدور عنها الكلام هنا ما هي إلا مثال لمسلمات تشربناها، لا عن طريق الدرس والفحص، وإنما أمطرنا الإعلام بها بدأب طوال السنين الأخيرة. عبارات مبهمة ولها بريق، ظاهرها التسامح والتعايش وقبول الآخر، وحقيقتها أنها تصريف من أجل التداول الشعبي لمفاهيم ليبرالية خاصة بالثقافة التي أنتجتها وتدعي أنها قيم إنسانية كونية مشتركة.

يقول الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Blockbuster Movies: Entertainment and Indoctrination